صوت الأمة:
خطاب 20 غشت يرسم وجه المغرب الجديد/العريق في المعاملات الدبلوماسية بالند للند
جاء خطاب غشت 2021 بمناسبة الذكرى 68 لثورة الملك والشعب، وسط حملة عدائية، بالمباشر او بالوكالة، في سلسلة من ” الهجمات المدروسة، التي يتعرض لها المغرب، في الفترة الأخيرة، من طرف بعض الدول، والمنظمات المعروفة بعدائها لبلادنا” (الخطاب)، والمغرب على أبواب انتخابات هامة جدا يجتمع فيها التشريعي بالمحلي والجهوي، لأول مرة في تاريخ المغرب. وهي الاستحقاقات التي يريدها ملك المغرب أن تكون فرصة لإفراز مؤسسات قوية، وتساهم في تمتين عرى الوحدة الوطنية، التي تعتبر عنصر قوة المغرب ورفعه لكل التحديات.
ومثلما استحضر الملك في خطاب العرش الأخير صفحات عن الحضارة والتاريخ، وعن قوة المغرب في وحدته الوطنية، فقد عاد في خطاب غشت ليُـذَكر بعراقة المغرب، تلكم العراقة التي تشكل عُقدة عند البعض ويحسدون عليها المغرب، مثلما يحسدونه على نِـعمة الأمن والاستقرار، وسط محيط إقليمي وعالمي مشوب بالاضطرابات والقلاقل، واهتزاز الاستقرار السياسي. ولأن الملك استهل خطابه الأخير بالتشديد على مناعة البيت الداخلي قائلا إن” الدولة تكون قوية بمؤسساتها، وبوحدة وتلاحم مكوناتها الوطنية”، فقد عاد ليؤكد من جديد على العمق التاريخي للمغرب وتنوعه الإثني والثقافي، وهو يفسر واحدة من أسباب استهداف المغرب، فيقول ” فالمغرب مستهدف، لأنه دولة عريقة، تمتد لأكثر من إثني عشر قرنا، فضلا عن تاريخها الأمازيغي الطويل”. والخطاب هنا فيه رسالة واضحة إلى كل النيات الحسنة والمُغرضة على حد سواء. إذ يتحدث عن مغرب العهد الإسلامي (12 قرنا) وعن المغرب الذي سبق دخول الإسلام، في إشارة إلى عهود الممالك الأمازيغ، قرونا قبل الاحتلال الروماني لشمال المغرب (خط وليلي – شالة)، ثم بين طرد الرومان وبين دخول الإسلام. وفي نفس السياق جاء في الخطاب ذكر دول شمال إفريقيا بصيغة “المغرب الكبير” و”البلدان المغاربية” و”المنطقة المغاربية”، ولم يذكر “المغرب العربي” إلا حين تحدث عن الاتحاد، فذاك هو إسمه المعروف به قانونيا وكذا في مستندات كل المنظمات الأممية.
بالحديث الصريح عن التاريخ الأمازيغي الطويل، يكون المَلك هنا متماسكا مع مبادئ دستور 2011، ويقدم أيضا درسا لكل من يريد، في الخارج كما في الداخل، إغفال المكون الأمازيغي في حضارة المغرب، ومن ثمة في شمال إفريقيا، أو العزف على هذا المكون في أحد الاتجاهين لأسباب مغرضة. وباستحضار مناهج تحليل الخطاب، يمكن أن نذهب بعيدا لنقول إن في كلام الملك تذكير أيضا لبعض الجيران بضرورة العناية بالمكون الأمازيغي في خرائطهم السياسية، بما يجمع بين تدبير الشأن السياسي والاقتصادي والثقافي، في هيكل بنيوي لا انفصام فيه ولا انفصال. وسيقرأ، وقد قرأ، المحللون في ذلك إشارات كثيرة، بالنظر إلى أوضاع بعض دول المغرب الكبير في هذا الباب خلال السنين الأخيرة. من جهة أخرى نجد الملك يتحدث، في نفس السياق التاريخي، عن “المَـلَكية المواطنة”، تلكم المَلَـكية المستمرة في شرايين المغرب مند الملوك الأمازيغ إلى اليوم، دون انقطاع. ولذلك فإننا شخصيا نكتب ونقول دوما إن المَـلَكية في المغرب هي تراث وطني، ومِلك لكل الشعب المغربي.
ويستمر الملك في استحضار البعد الأمازيغي لدول شمال إفريقيا، حين يتحدث عن ركون بعض الدول إلى مناهج دبلوماسية عتيقة ومتجاوزة، ليضرب عصفورين بحجر واحد. يقول الملك عن بعض هذا الدول إن “بعض قياداتها لم يستوعبوا بأن المشكل ليس في أنظمة بلدان المغرب الكبير، وإنما في أنظمتهم، التي تعيش على الماضي، ولا تستطيع أن تساير التطورات “. وهو بذلك يعيد إلى الأذهان الإسم الحقيقي لدول شمال إفريقيا، بينما ينبه في الآن نفسه بعض الدول الأوربية التي مازالت تتعامل معها باستعلاء وشوفينية، وهي تسبح في وادي جَـرت تحت جسره كثير من المياه، ربما في غفلة منها، فلم تتفطن إلى التطورات الحاصلة هنا بالضفة الجنوبية. هو كلام دبلوماسي للملوك، ليقول العاهل المغربي لبعض حكام أنظمة أوربية، ها قد آن الأوان لنتعامل على قدم المساواة والاحترام المتبادل، والشفافية والوفاء. وتحيلنا هذه العبارة الأخيرة، من كلام الملك، على استخلاص مقارنة بين استقرار الأنظمة المَلكية في معاملاتها الدبلوماسية، وبين أنظمة تزعُم تزعمها للديمقراطية، بينما اختلاف الحكم فيها لا يجعل مواقفها تستقر على حال، ومن ثمة تصبح أمثال تلك الدول مهزوزة المواقف في الساحة الدولية، بسبب حسابات اقتصادية ضيقة، ومرحلية، وهي بذلك لا تستحق المكانة التي تزعهما لنفسها بين الأمم.
ومن منطلق المغرب الذي تغير مثلما يريد وليس كما يريدون، ومن مبدإ المعاملة الدبلوماسية بالند، أرسل الملك خطابا واضحا إلى دول أوربية ومنظمات دولية، من خلال السلطات الإسبانية متحدثا عن حل الأزمة الأخيرة بين البلدين قائلا ” ولم يكن هدفنا هو الخروج من هذه الأزمة فقط، وإنما أن نجعل منها فرصة لإعادة النظر في الأسس والمحددات، التي تحكم هذه العلاقات”. فالكلام لا يحتاج إلى تفسير من أنه على إسبانيا، ودول أوربية أخرى تعرف نفسها، أن تعلم أن المغرب العريق والموحد والقوي لا يقبل أبدا أية نظرة استعلائية في التعامل معه، ويرفض كل فكر يحمل رواسب الاستعمار القديم ويُـجَدده، ومن ثمة فهو مستعد حتى لمراجعة الأسس والمحددات التي تحكم علاقاته مع بعض الدول المتغطرسة. وإياكم نعني، كنتم جيرانا أو في عمق القارة، بعيدا هناك وراء الضفاف الأخرى. ولسنا في حاجة إلى التذكير بالفصل الجديد في العلاقات بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، والذي يستحق وصفه بكونه فصلا غير مسبوق، وهو واحد من عناوين المكانة التي يحظى بها المغرب في الساحة الدولية، رغم أنف البعض. ونحن ندرك أن المسار مازال طويلا.
إجمالا، لقد جاء خطاب 20 غشت ليقول للعالم إن المغرب تغير وفق ما يريده لنفسه، مثلما جاء ليشدد على اليقظة الداخلية والثبات في تقوية البيت المغربي. وقد جاءت فقرات الخطاب تصب في هذا الاتجاه، تذكيرا بما جاء قبل عشرين يوما في خطاب العرش، حيث سبق للملك أن قال بصريح العبارة أيضا “المغرب دولة عريقة، وأمة موحدة، تضرب جذورها في أعماق التاريخ. والمغرب قوي بوحدته الوطنية”، وقد خصصنا لذلك مقالة سابقة. وبنفس النبرة استهل خطاب ثورة الملك والشعب. هو خطاب إلى الشعب أولا، خطاب واحد في خطابات، للتشديد على ضرورة تماسك الأمة ووحدتها ودفاعها عن مؤسساتها وثوابتها وحُرمتها، وافتخارها بعراقتها الضاربة في جذور التاريخ، وضرورة تمنيع ذاتها ضد كل المحاولات اليائسة، من طرف أعداء كيفما كانوا ومن أية جهة وفدوا. والمشاكل الداخلية، اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، لا تلغي تماسك الأمة وتضامنها، كلما أحس الجسد الواحد بخطر ما. لذلك، ونحن نتحدث من موقع المتشبع والمتسلح بالفكر اليساري والتقدمي والحداثي، نضم صوتنا إلى صوت الشعب وصوت كل القوى الحية المنافحة عن مصالح المغرب ووحدته وسيادته وعزته بين الأمم. “للي ما غار على نفسو، ما غار الله عليه”.
الجديدة 23 غشت 2021
أبوالقاسم الشـــبري (باحث أثري ومؤلف)