صوت الأمة:بقلم محمد الصفى
بدأت مسيرة ميلاده مع الفن التشكيلي بشكل فعلي سنة 1982، من خلال مشاركته في أول معرض جماعي بمدينة آزمور رفقة نخبة من الفنانين التشكيليين،معلنا احترافه للموهبة التي اكتسبها من منذ دراسته الابتدائية، ثم طورها وتفنن فيها، مبدع متواضع، خلوق، مما جعله محبوب من قبل ساكنة المدينة التي شاءت أن يكون مولده بها سنة 1955 ، يشتغل في صمت بعيدا عن الأضواء، إنه الفنان التشكيلي قلمون عبد الحميد، و الذي يصنف ضمن الجيل الثالث للفنانين التشكيليين رفقة محمد هبولي و عبد الكريم الأزهر و عبد الله الديباجي، لم يتعلم قلمون أسس الرسم في المدارس ولا الجامعات، لكنه اكتسب هذه المهارات من التجارب وحبه للاطلاع والبحث في هذا المجال، وهكذا انكب على الاستزادة بالمعرفية الفنية والاطلاع على أحدث وسائل ومدارس وخامات وآليات الرسم، وهو ما مثل الأساس المتين لذخر إبداعه حتى اكتسب خبرة أكثر وطور نفسه بنفسه، جاعلا مدرسة خاصة به بشهادة عدد من زملائه و المهتمين بالمجال وطنيا و دوليا.
الفن التشكيلي بالنسبة لقلمون عبد الحميد هو البولصة التي بدونها لا يستطيع معرفة ذاته و كينونته، فهو الذي يستطيع من خلاله التعبير عما يجول في خاطره والافصاح عن أحساسه و مشاعره، مداعبا الفرشاة و الألوان، مبحرا في عالمها ليستخرج منها ما يشفي غليله، مترجما إياها إلى لوحات تعج بالروح و الدفء الإنساني الخالص، فتجده تارة يشتغل على لوحة واقعية يحاكي من خلالها واقعة معينة، و تارة على لوحة تجريدية معتمدا على الرمزية و الأشكال الهندسية، دون نسيان طيره الفريد ذا المنقار الطويل، و تارة أخرى على لوحة انطباعية يشرك من خلالها المتلقي للتأمل و تنشيط الذاكرة معتمدا فيها على مخيلته الفياضة، التي تختزل سنوات الطفولة و ما تحتويه من مشاهد و تأملات، فهو من خلال أعماله الأخيرة يبدو عاشقا وفيا في محراب التراث الذي يتجسد في الألوان التي يستخدمها و التي تبقى خاصة به لما تحمله من حركية و توهج، مبتعدا عن الجفاف و التوازن فاللوحة لديه قصة و مزاج مختلفين و لكل لون يستخدمه إحساس، فهناك لوحات تعبر عن الانطلاق و الحرية و أخرى عن الفرحة و النشوة و أخرى عن الألم و الحزن و … فاللوحة كما يقول هي إحساس عفوي صادق منبثق من أعماق الفنان محول لصورة بصرية تجمع مساحتها بين الظل و الضوء، و جمالية اللون، و الممازحة بين الشكل و المضمون و الرمز، لذا نلمس من خلال أعمال قلمون عبد الحميد الذي يشتغل على كل أنواع الخامات و المواد لدرجة أنه رسم على الورق و القماش و الجلد و الخشب حتى الآلات الموسيقية لم تسلم من لمسته الساحرة، فالفن التشكيلي الذي يأتي عن صدق المشاعر والمكنونات الداخلية من واقعية الزمان والمكان، والتعبير الجيد عن خبايا الذات، يبقى لديه هو المحرك الأساسي والحقيقي للريشة ومنبع الألوان الجميلة، و بنظرة خاطفة للوحاته تلمس الواقعية والتأثيرية المتجسدة في الرمزية التي يشتغل عليها كثيرا، كما تلمس هدوء الألوان الخاصة به و التي تميل إليها نفسه، مثل البني والأخضر و الأزرق بتدرجاتهم و أبعادهم .
عبد الحميد قلمون من نوع الفنانين الذي يستهويه الهدوء و السكينة و السفر عبر عوالم المحيط الذي يعيش فيه، و الذي يمنحه ذاك الإلهام الذي يبحث عنه، فيجسده في أعماله بإيحاءات إنسانية تعبر عن الانطلاق و الحرية و التفرد في محاريب الألم و الظلم و القلق، و ذلك بطريقة و أسلوب خاص فهو يرسم لا للرسم و لكن للإبداع، لأن الرسام المبدع هو الذي يتميز بأفكاره المطروحة و طريقة اشتغاله و المواد التي يستعملها، متنقلا من مرحلة لأخرى بطريقة عفوية تيحكم فيها ابداعه و ابتكاره. يقول عنه الكاتب و الإعلامي عبد الواحد سعادي ” برز اسم قلمون عبد الحميد في الساحة التشكيلية في بداية الثمانيات من خلال أعماله التي ضاهت آنذاك كبار الفنانين التشكيليين رغم حداثة سنه و عصاميته، و قد تميز بتقديم وفق أسلوب خاص به و المتجلي في إبراز قيمة الرمز في اللوحة محاورا الألوان بالتظليل لتتداخل فيما بينها وفق تدرج يتجاوب فيه الشكل مع المضمون، لذا تجد المتلقي في معارضه يقف مشدوها حيث تتراءى له الأشكال المرسومة تتحرك بدرجات تصاعدية حينا و تنازلية أخرى . ”
تبقى أعمال قلمون جزء من شخصيته، التي تشدك بتميزها و سحرها الخاص المتجلي في التعامل مع الألوان و كيفية التعامل معها في ظل الظل و الضوء، مما قوى حضوره في عدد من المعارض و التظاهرات الوطنية خاصة بالجديدة و الدار البيضاء و الرباط و مراكش كما كان له حضور على المستوى الدولي من خلال تنظيم معارض بكل من مديني لموج و بوردو بفرنسا و بدولة الصين و ألمانيا و الإمارات العربية المتحدة، قال عنه الباحث و الناقد عبد الغني لزرك في خضم متابعته الفنية : الفنان قلمون عملة نادرة في مجال الفن التشكيلي، دائم النشاط، دائم التجديد، فهو في حالة إنتاج مستمر في التشكيل و الرسم، مع أن كل مرحلة من أعماله تأخد حيزها الزمني المناسب لتأتي مرحلة جديدة من وحي التجربة و من عمق المرحلة السابقة، مخصصا لها اشكالها و مساحاتها مع الحفاظ على النسق اللوني و الضوئي فبعد مرحلة الوجوه بوجهات مختلفة و متباعدة جاءت مرحلة الغوص في الواقعية المتجسدة في الطبيعة ثم مرحلة الشكال الهندسية المتناسقة و التي وظف فيها بعض الوجوهيات و الرموز ذات الدلالات المتوزعة بين الذات ” الأنا ” و الآخر”
لقد استطاع عبد الحميد قلمون رغم عصاميته أن يبتعد عن النمطية التقليدية التي تشبع بها الفطريون على مستوى الأشكال أو المواد الخام مفضلا أسلوبا جديدا جعله يتميز و يبصم بصمته الخاصة في التشكيل معتمدا على الجرأة و التجربة اللتان جعلاه يبدع في تجميع المناظر و الأشخاص في تكوينات فريدة باستخدام المنظور التماثلي متحكما في تقنية الظلال و الضوء و بلاغة النسق اللوني الذي يضفي على اللوحة الرقة و البهجة و للمتلقي النبهار و التيهان في أغوارها الدافئة .