صوت الأمة:
بوشعيب جوال: دكتور في الشريعة والقانون.
تحقيقا لمبدأ المساواة منحت الشريعة الإسلامية للأفراد ضمانا كافيا لحرية التصرف صيانة للحقوق والحريات الفردية والجماعية من التعدي أو إساءة استعمالها.
يقول ابن عاشور ” لما تحقق فيما مضى أن المساواة من مقاصد الشريعة الإسلامية لزم أن يتفرع على ذلك أن استواء أفراد الأمة في تصرفهم في أنفسهم مقصد أصلي من مقاصد الشريعة الإسلامية وذلك هو المراد بالحرية
ولعل أهمية استيفاء الحقوق وتعجيل إيصالها لأصحابها له دور كبير في ترسيخ منظومة حقوق الإنسان، ولهذا روى الإمام مالك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قوله ” إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقران” هذا وإن اقتران الحديد – وهو من القوة – بوجوب إقامة العدل بين الناس في الأرض في قوله تعالى ” ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنفع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز فيه إشارة الى أن القوة ينبغى أن يتم إعدادها واتخاذها، لتكون سندا للحق والعدل اللذين اشتمل عليهما الكتاب وما تضمنه من ”البينات” إذ كل من الحق والعدل وإن كان يشمل في ذاته على عناصر إقناعية يقبلها المنصفون والعقلاء، غير أنه كثيرا ما يبغى عليه، فلا بد له من قوة تحميه تجاه أعدائه من أولي المطامع والأهواء والظلم والاستبداد في الأرض بغية الاستعلاء فيها بغير الحق ، هذه القوة هي قوة إنفاذ الحق والعدل، فكما أن الحكم إذا لم يكن له مستند من الشرع يصبح حكما عديم الفائدة لبطلانه في أصل الشريعة، كذلك الحق الذي يحكم به إذا لم تكن له سلطة تنفيذه، يصبح الحكم عديم الفائدة إذ قيمة الحكم في الالتزام به.
إن حماية الحقوق وصيانتها أساس العدالة القضائية والحقوقية التي ينشدها المتقاضي من عرض نزاعه أمام القضاءوهو الضمانة الفعلية لتعزيز سلطة ومكانة القضاء وفرض مصداقيته واحترامه في الدولة فإلى أي حد استطاعت الشريعة الإسلامية أن تحافظ على هذا المبدأ؟وما هي الاليات المعتمدة في ذلك؟ وما أثر تنفيذ الأحكام القضائية في تعزيزوترسيخ منظومة حقوق الانسان على أرض الواقع؟
لقد تقرر في كلام القرافي أن التنفيذ هو تبليغ صاحب الحق لحقه بالفعل وإخراجه من الذي هو عليه بسجن، أو غيره وأخذ المال بيد القوة ودفعه لمستحقه وتخليص سائر الحقوق وتمكينها بيد مستحقها كتسليم الولد لحاضنته وإرجاع المعتدة من طلاق لبيت سكناه، أو نحو ذلك .
فالتنفيذ غير الحكم والثبوت وليس كل الحكام لهم قوة التنفيذ لاسيما الحاكم الضعيف، وقد جعل للحاكم قوة التنفيذ وقد تسلب منه كما هو الحال اليوم
وذكر الخشني في ”قضاة قرطبة” أنه لما ولي عمرو بن عبد الله قضاء الجماعة في الأندلس ، وكان من الموالي شق ذلك على العرب ، فبلغ ذلك الأمير فقال : وجدت فيه مالم أجد فيهم، وقد وصفه الخشني أنه كان إذا نطق كأنما ينطق من صدع من صخرة مع الهيبة الشديدة والمروءة الظاهرة لا ينظر إلا لمحا ولا ينطق إلا تبسما، كان إذا قعد لا يقترب منه خصم ولا يدنو منه أحد، وكذلك إذا ركب لا يصحبه صاحب ولا يسير إلى جنبه راكب، مع قوة الشكيمة والصلابة الشديدة، والتنفيذ الوشيك وقلة المداراة لمن لصق بالخليفة من وجوه خاصته وعيون رجاله .
وللسبب ذاته أجاز الفقهاء عزل القاضي إذا ثبت ضعفه عن القيام بالحق وإنفاذه.
وقد ذكر أن عمر بن الخطاب ر ضي الله عنه عزل أبا مريم عن القضاء، وذلك أنه اختصم إليه رجلان في دينار فحمل القاضي دينارا فأعطاه للمدعي.
فكتب عمر: إني لم أوجهك لتحكم بين الناس بمالك وإنما وجهتك لتحكم بينهم بالحق وعزله .
ولقد شهد القضاء الإسلامي وقائع كثيرة أثبتت قوة القضاة في إنفاذ الحق من ذلك أيضا رفض سوار بن عبد الله أمر الخليفة المنصور إخراج أرض من يد تاجر وإعطائها لأحد القواد، عندما قام البينة أنها للتاجر وفي أخبار القضاة ورد أن شريحا قضى على رجل فحبسه في السجن وأرسل إليه شبر بن مروان أن خل عن الرجل ، فقال شريح السجن سجنك والبواب بوابك، وأما أنا فإني رأيت عليه الحق فحبسه لذلك وأبى أن يخلى عنه .
ولهذا قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين تعليقا على قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ”فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، ومراد عمر بذلك التحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم ولا ينفع تكلمه به إن لم يكن له قوة تنفيذه، وقد مدح الله سبحانه وتعالى أولي القوة في أمره والبصائر في دينه فقال” واذكر عبدنا إبراهيم واسحق ويعقوب أولي الايدي والابصار .فالأيدي القوة على تنفيذ أمر الله تعالى والأبصار البصائر في دينه
ولضمان قوة إنفاذ الحق اشترط الفقهاء في القاضي أن يكون صليبا عظيم الصلابة قويا شديدا في الحق لا يميل إلى الهوى.
ذكر ابن بشكوال رحمه الله في كتاب ”الصلة” أن القاضي عبد الرحمن بن محمد كان مشهورا في أحكامه بالصلابة في الحق ونصرة المظلوم وقمع الظالم وإعزاز الحكومة .
ولعل موقف القاضي ابن شبرمة يؤكد هذا المعنى ويقطع قوة القضاة في إنفاذ الحق فقد روى أنه قضى مرة على أحد القواد وقال له إياك والله لئن هربت لأتبعنك القضاء، وقال لخصمه خذ كفيلا أو وكيلا .
من ذلك أيضا أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه أساء معاملة شارب الخمر بأن زاد على جلده فحلق شعره وسود وجهه ونادى في الناس بعدم مجالسته ومؤاكلته، فأعطى عمر رضي الله عنه الرجل مائتي درهم تعويضا عما أصابه وترضية لما لحقه من إساءة، وكتب إلى الوالي يقول لئن عدت لأسودن وجهك ولأطوفن بك في الناس وأمره أن ينادي في الناس أن يؤاكلوه ويجالسوه .
والحاصل من كل هذا أن قوة إنفاذ الحق لا تتحقق على الوجه الأكمل إلا في إطار مبدأ العدل الذي يستلزم طبيعة إنفاذ الحق.
وأن كل فرد من هذا المجتمع من حقه المثول أمام القضاء دون قيد، أو شرط، وأن يعلم أن القضاء هو حق لكل مواطن في أن يعرض عليه ما يرى أن به ضمان لحقوقه ،فإن النصوص الشرعية تؤكد أن لكل فرد الحق في أن يدعي ليطال بحق يرى أنه يستحقه، ففي بعض المواقف نجد الرسول صلى الله عليه وسلم –يلبي- دون أدنى غضاضة –طلب من أراد القصاص منه، فقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : بيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب رجل، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ”تعال فاستقد” قال: له عفوت يارسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي غزوة بدر الكبرى وقف صلى الله عليه وسلم بين الصفوف يعدلها بقضيب في يده فمر رجل اسمه سواد بن غزة حليف بني النجار، وهو خارج من الصف، فضربه بالقضيب في بطنه وقال: استقم ياسواد، فقال : أوجعتني يارسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بعثت بالحق والعدل أقدني من نفسك ” أي” اجعلني أقتص منك ”، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: استقد ياسواد”،أي: اقتص مني”، فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ”ما حملك على ذلك”؟ فقال : يارسول الله قد حضر ما ترى، فأراد أن يكون آخر العهد أن يمس جلدي جلدك، فدعا له بخير .
وروى ابن كثير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس في مرضه الذي توفي فيه، فقال: ”أيها الناس ألا من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد، ولا يقول قائل: أخاف الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليس من شأني ولا من خلقي، وإن أحكم إلي من أخذ حقا إن كان له علي أوحللني، فلقيت الله عز وجل وليس لأحد عني مظلمة .
وقد التزم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا المبدأ، فقد ثبت عن أبي بكر -رضي الله عنه، أنه قال لرجل شكا إليه عاملا “أي: واليا” أنه قطع يده ظلما: لئن كنت صادقا لأقيد بك منه .
وثبت عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يقيد من نفسه، وروى أبو داود قال: خطب عمر فقال: إني لم أبعث عمالي “ولاتي” ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فُعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلا أدب بعض رعيته تقصه منه؟ قال أي والذي نفسي بيده أقصه، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه .
ويظهر جليا من خلال ماسبق ذكره فإن الشريعة الاسلامية أولت حقوق المتقاضين عناية فائقة حماية و تنزيلا لمنظومة حقوق الإنسان على أرض الواقع.
يتبع….)