صوت الأمة
وجهة نظر بقلم المصطفى دراݣي
اثنا عشر يوما كانت كافية لتهزّ عرش المنطقة، وتفزع العالم من شبح حرب إقليمية لا تبقي ولا تذر، لكنها في المحصلة لم تضع أوزارها بانتصار جليّ ولا بهزيمة صريحة. حربٌ دارت رحاها بين إيران وإسرائيل، كانت نيرانها ملتهبة، وأصوات صواريخها مدوية، لكن نهايتها كانت باهتة، أقرب إلى الصمت منها إلى صفير الرصاص.
من يظن أن الحرب الإيرانية الإسرائيلية الأخيرة حسمت شيئا، فقد جانب الصواب وضلّ السبيل. فإسرائيل، رغم القصف الجوي المكثف، لم تستطع ليّ ذراع طهران، ولا تفجير أعماقها الداخلية، ولا زرع بذور التمرد بين أفراد شعبها ضد نظام خامنئي. أما إيران، التي لطالما تبجحت بقدرة حرسها الثوري على “محو إسرائيل من الخريطة”، فقد بدا خطابها باهتا، وصمتها عن تفاصيل القصف الأميركي لمنشآتها النووية أكثر بلاغة من ألف بيان.
لكن ضجيج المعارك لم يُغطِّ على تسريب إعلامي أحدث زلزالا حقيقيا: تقرير لقناة CNN الأميركية، استند إلى تقييم أولي من وزارة الدفاع الأميركية والموساد والوكالة الدولية للطاقة الذرية، كشف أن الضربات الجوية لم تُصِب صلب المشروع النووي الإيراني. فبحسب التقرير، كانت طهران قد نقلت مخزونها من اليورانيوم المخصب قبل أيام من الهجوم، ما جعل الضربة “تكتيكا أعمى” في نظر البعض، و”فشلا استخباراتيا” في نظر آخرين.
والمفارقة أن طهران لم تنفِ هذا التقييم، بل عززته عبر تصريحات تؤكد امتلاكها ليورانيوم مخصب بنسبة 84%، أي أنها عمليا على عتبة إنتاج سلاح نووي كامل في أية لحظة. وهو إعلان لا يخلو من رسائل نفسية واستراتيجية، تتجاوز الداخل الإيراني لتصل إلى تل أبيب وواشنطن، وتقول للجميع: نحن هنا، ونملك الخيار النووي إذا استُفزّت مصالحنا.
وما كشفته هذه الحرب من هشاشة في البنية الأمنية الإيرانية لا يقل خطورة عن القصف ذاته، فقد ظهرت سهولة الاختراق الاستخباراتي الأميركي والإسرائيلي للمنشآت الحيوية، بدءا من اغتيال قادة الصف الأول والعلماء، إلى الرصد عالي الدقة لمسارات الأسلحة والمنشآت، وصولا إلى اختراق الدوائر الضيقة للقرار السياسي والعسكري. هذا الضعف، الذي لم يكن مكشوفا بهذا الوضوح من قبل، سيكون له ما بعده في ميزان الردع والهيبة الإيرانية.
يبقى مصير محطة “فوردو” النووية لغزا غامضا، وسرا دفينا تتقاطع حوله الروايات وتتنازع حوله التحليلات. هل بلغت القنابل الأميركية خارقة التحصينات أعماقها؟ هل تم تهريب اليورانيوم قبل القصف؟ أم أن طهران تمتلك بالفعل منشآت بديلة تحت الأرض لم تُكتشف بعد؟
في واشنطن، انقسمت المؤسسات: الاستخبارات الدفاعية قالت إن القصف لم يؤثر إلا بشكل مؤقت، في حين أكد مدير CIA أن المواقع الحيوية قد دُمرت بالكامل. أما البيت الأبيض، فوصف تسريب التقرير بأنه “خيانة استخباراتية”، وهاجم وسائل الإعلام، لا سيما CNN، متهما إياها بنشر معلومات “غير دقيقة” في توقيت بالغ الحساسية. فهل كانت هذه التسريبات مجرد إعلام استقصائي، أم محاولة موجهة لخلط أوراق اللعبة قبيل الانتخابات الأميركية المقبلة؟
إن ما يجري الآن هو أقرب إلى “هدنة بصرية”، لا إلى وقف نار حقيقي. فإسرائيل، التي تعتبر مجرد المعرفة النووية تهديدا وجوديا، بدأت بتحريك أدواتها الاستخباراتية مجددا لرصد مواقع التخزين المحتملة. وإيران، من جهتها، تلعب ورقة الغموض الاستراتيجي بإتقان، محافظة على معادلة “نملك السلاح دون أن نعلن عنه”، ما يتيح لها الردع دون استفزاز مباشر.
ووسط كل هذا، لا يبدو أن نهاية المعركة كانت نهاية الحرب. فهذه ليست سوى إدارة مؤقتة لنزاع مؤجل، تتداخل فيه الانتخابات الأميركية، والأزمة السياسية في إسرائيل، والضغوط الاقتصادية والاجتماعية في إيران. حرب بلا نصر، ومعركة بلا غنيمة، خاسرة في ظاهرها، ملغّمة في باطنها.
وإن كان النظام الإيراني قد ادعى الصمود، فإن الشارع الإيراني بات أقل تصديقا، وأكثر تمردا. لقد أسقطت هذه الحرب ورقة التوت عن شعارات “الردع المقدس” و”الكرامة النووية”، وكشفت هشاشة القيادة أمام محكّ الواقع. فتهاوي ثقة الشعب الإيراني بنظامه، بعد أن رأى عجزه عن الردع الحقيقي، سيكون له أثر بالغ في المشهد السياسي الداخلي، ويفتح الأبواب لرياح المعارضة والتغيير.
إن الإعلام، الذي قد لا يطلق صاروخا، يمسك اليوم بلوحة مفاتيح الاطلاق. وCNN، بتقريرها الأخير، لم تكن مجرد ناقل خبر، بل مُشعل نار ناعمة، قد تُغيّر وجه الشرق الأوسط في الشهور المقبلة. السؤال لم يعد: هل تقع الحرب؟ بل متى؟ وبأي شكل؟ — ومن ذا الذي ينجو منها حين تندلع فعلا؟