صوت الأمة: هيئة التحرير
في هدوء لندن العتيقة، ووسط أجواء تغلفها غيوم الرحيل، أسدل الستار اليوم، الأحد، على صفحة من صفحات التاريخ النيجيري الحديث، برحيل الرئيس السابق محمد بخاري عن عمر ناهز 82 عاما، بعد صراع طويل مع المرض، كما أعلن متحدث رسمي باسم الرئاسة النيجيرية.
لقد رحل بخاري، لكن صدى خطاه لا يزال يتردد في أروقة السياسة النيجيرية، وسيبقى اسمه محفورا في ذاكرة وطن عرفه قائدًا عسكريّا لا يلين، ورئيسا مدنيّا شديد البأس، حمل على عاتقه همَّ الوطن، وواجه رياح الفساد بقبضة من حديد وقلب لا يهاب.
وُلد محمد بخاري سنة 1942 في بلدة دايورا، تلك الحاضرة الشمالية من ولاية كاتسينا، حيث تتعانق الرمال مع المعتقد، ويشعُّ نور الإسلام في قلوب غالبية السكان. ينحدر من قبيلة الفولاني، ويتصل نسبه العرقي بالهوسا، أكبر التجمعات العرقية في البلاد، وأكثرها رسوخا في الهوية النيجيرية، حيث يشكل المسلمون منهم نحو 89%.
منذ بواكير شبابه، اختار بخاري درب الجندية، وارتدى البزة العسكرية لا طمعا في جاه، بل إيمانا بأن للوطن دينًا في الأعناق، لا يُوفى إلا بالتضحية والإخلاص. تنقل بين المهام العسكرية، حتى تولى الحُكم في يناير/كانون الثاني 1984، عقب انقلاب على الرئيس المدني شيخو شجاري، ليبسط سلطته على البلاد في فترة حرجة، امتزجت فيها آمال التنمية بخيبات الواقع السياسي، قبل أن يُزاح عن الحكم في أغسطس/آب 1985 بانقلاب قاده الجنرال إبراهيم بابا نجيدا.
لكن القدر أبى إلا أن يعيده إلى منصة القيادة، فعاد بخاري إلى الحكم من بوابة الانتخابات الديمقراطية عام 2015، بعد أن غلب خصومه في صناديق الاقتراع، وجدد له الشعب الثقة مرة ثانية في 2019، ليحكم نيجيريا حتى 2023، ويظل بذلك أول معارض سياسي يفوز بالرئاسة عن طريق صناديق الديمقراطية، بعد أن حكمها يوما بانقلاب العسكر.
اشتهر بخاري بـنقاء اليد ونقاء السريرة، فكان كالشجرة المثمرة في أرض يباب، يحارب الفساد كأنه عدو غاشم، ويقاوم المحسوبية كما تُقاوَم النار في الهشيم. عرفته نيجيريا رجلًا صلبا في المواقف، لينا في المبادئ، صادقا في انتمائه، لا يخشى لومة لائم حين يتعلق الأمر بمصلحة البلاد.
كان كالصخر في زمن التمايل، وكالسيف في زمن المساومة، يقود الدولة بحزم، وقد نالت سياسته إعجابًا في الشمال المسلم، رغم تحفظ بعض الأوساط في الجنوب المسيحي على نهجه الصارم وانتمائه الديني.
وبرحيله، تُطوى صفحة من صفحات الجندية والنزاهة، وتفقد نيجيريا رجلاً اختلف حوله الكثيرون، لكنهم أجمعوا على صدقه ونقاء سيرته. لقد مات بخاري جسدا، لكن فكره ونهجه وإرثه سيظلان حيَّين في ضمير الأمة، فـالكبار لا يرحلون… بل يخلدون في ذاكرة الأوطان.