أخر أخبار

سجلماسة : اكتشافات أثرية تعيد كتابة تاريخ المنطقة.

25 يوليو 2025
A+
A-

صوت الأمة:هيئة التحرير

في قلب الجنوب الشرقي المغربي، وتحديدا قرب الريصاني، تقف سجلماسة اليوم شاهدة على ولادة جديدة، لا من رحم الرمل فحسب، بل من عمق الذاكرة الجماعية. لقد كشفت حملتا التنقيب لسنتي 2024 و2025 عن كنوز أثرية تسبر أغوار التاريخ الوسيط، وتعيد الاعتبار لمدينة طالما وُصفت بأنها بوابة الصحراء ومفترق طرق التجارة والعلم والعمران.

البرنامج العلمي الذي أطلقه المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، تحت إشراف الأستاذة أسماء القاسمي، لم يكن مجرد حفر في الأرض، بل حفرٌ في طبقات الزمن. وأسفرت هذه الحملة غير المسبوقة، وهي الأضخم منذ سبعينيات القرن الماضي، عن اكتشافات نوعية، تتصدرها معالم أقدم مسجد مؤرخ في المغرب، بمساحة تُقدّر بـ2620 مترا مربعا، يقدم أدلة معمارية توثق لانتشار الإسلام في المغرب الأقصى وتطور أنماط البناء الديني من عهد بني مدرار إلى العصر العلوي.

لكنّ سجلماسة لم تكتفِ برفع الأذان الأثري من مئذنة الماضي، بل همست أيضاً بسرّها الاقتصادي المدفون. فقد تم العثور لأول مرة على قالب خزفي يحتوي آثارًا لذهب سك النقود، ما يثبت وجود ورشة لصناعة الدينار الذهبي، ويعدّ أول دليل مادي على ذلك في المغرب، وثانيه على مستوى القارة الإفريقية. إنها شهادة جديدة تؤكد أن سجلماسة لم تكن فقط مدينة روحية، بل مركزا ماليا حيويا ربط بين الشمال والجنوب.

ومن ثنايا البيوت العلوية المكتشفة، وعددها 12 منزلا، ظهرت أنماط عيش الشرفاء العلويين. كشفت التفاصيل الدقيقة لفضاءاتها الداخلية، إلى جانب بقايا نباتات محفوظة، عن نمط غذائي دقيق في بيئة شبه صحراوية، يُترجم قدرة الإنسان المغربي على التأقلم مع تحديات الجغرافيا.

أما البعد الجمالي للاكتشافات، فكان براقًا كالذهب نفسه. فبين زخارف الجص المحفور من الفترة المدرارية، وقطع الخشب المذهب والملون المستخرجة من المدرسة العلوية، أطلت علينا صفحة ناصعة من الفن الزخرفي الإسلامي المغربي، تعكس ذائقة جمالية راقية، وفهما معمقا للتناسق والبناء الرمزي داخل العمران الإسلامي.

وأكد المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، في بلاغه، أن هذه النتائج “تعيد رسم ملامح سجلماسة، ليس فقط كموقع أثري، بل كنسيج مدني متكامل أعيد ترميمه معرفيا عبر 9000 متر مربع من الحفريات”. كما اعتُبرت هذه الاكتشافات “منعطفا تاريخيا في إعادة قراءة الخريطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للجنوب المغربي”.

وإذا كانت المدن العريقة تُقاس بما تنقشه في سجل الحضارة، فإن سجلماسة اليوم تعود لتنتزع مكانتها من جديد، مدينة لا تُقرأ من خلال الأطلال، بل من خلال الأدلّة، لا من خلال الروايات وحدها، بل من خلال ترابٍ نطق، وجدران أفصحت، وأدوات وقّعت على صدقية الحكاية.

 

 

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: