صوت الأمة: بقلم عرفات محسن
برشلونة، المدينة التي طردت اليهود في 1492 كجزء من مسرحية “توحيد ديني” قاسية، أصبحت اليوم منصة لانطلاق قافلة بحرية ضخمة تهدف إلى كسر حصار غزة. هكذا، التاريخ يلعب لعبته الساخرة: المكان نفسه الذي شهد اضطهادا وعنفا صار منطلقا للحرية والتضامن. يبدو أن الزمن يحب المفارقات، وأن المدن، مهما حاولت محو ذاكرة الألم، لا تستطيع التخلص من حسّ الدعابة التاريخية.
في العصور الوسطى، كان طرد اليهود يشكل “علامة الجودة” للوحدة الدينية والسياسية، وكأن من يعادي المختلف عنه يصبح بطلًا للمجتمع. واليوم، تتحول نفس الشوارع والحارات، ذات الصدى التاريخي الثقيل، إلى فضاء لإنقاذ المحاصرين، وكأن التاريخ نفسه يسخر من سياسات الماضي: ألم الأمس يتحول إلى تضامن اليوم، وطرد قسري يتحول إلى فعل تضامني طوعي.
التناقض صار مكشوفا للعيان: الماضي المظلم والحاضر المفتوح، الألم والحرية، الطرد والتضامن. برشلونة تذكرنا بأن المدن ليست مجرد حجارة وأسوار، بل كائنات حية تتقلب في الزمان، تحمل ندوبها وتضحك على مفارقاتها. كل حدث سياسي أو إنساني يحمل في طياته سخريته الخاصة، خصوصا حين يقع على نفس المكان الذي شهد صخب الألم.
العبرة؟ التاريخ لا يتكرر حرفيا، لكنه يترك بصماته الساخرة على وعي البشر. وفي عالم السياسة، حيث كل قوة تبحث عن رمزية لتبرير مواقفها، تأتي برشلونة لتقول: “تراجعوا عن أحكامكم المسبقة، فالمكان نفسه قادر على قلب الموازين، وتحويل الألم إلى فعل تضامني”.
وهكذا، من طرد اليهود إلى قافلة الحرية، من القسوة إلى الرحمة، يظهر للعقل أن التناقض ليس فقط محتوى للتفكير، بل أحيانا كوميديا تاريخية لا يُصدق أن الزمن يلعب بها، وأن المدن تحترفها.