صوت الأمة:
الرباط، في 22 أكتوبر 2025
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه
الحضور الكريم؛
يطيب لي أن أحضر افتتاح أشغال هذه السلسلة التكوينية الموجهة لقضاة أقسام الجرائم المالية، والتي تنظمها مؤسسات السلطة القضائية بتعاون مع المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للمالية، في إطار دينامية مؤسساتية تؤكد انخراط بلادنا في مسار وطني متكامل لمحاربة الفساد المالي، وترسيخ قيم الشفافية والحكامة والمساءلة. وأغتنمها فرصة لشكر والتنويه بكل من ساهم في إعداد هذا اللقاء.
حضرات السيدات والسادة؛
إذا كان التصدي للفساد اليوم يعد مؤشرا على قوة إرادة مؤسسات الدولة، ومقياسا لمدى ثقة المواطنين في مؤسساتهم، ومحكا حقيقيا لفعالية العدالة الجنائية في حماية المال العام وصون المصلحة العامة. فإن المغرب، تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، قد جعل من محاربة الفساد ورشا استراتيجيا دائما، لا يرتبط بتقلبات الظرفية بل يتأسس على رؤية ومبادئ راسخة هي قوام دولة الحق والمؤسسات، وذلك لأن الجرائم المالية ليست مجرد خروقات قانونية فحسب، بل هي اعتداء على قيم المجتمع وثقته في مؤسساته. لذلك فإن مكافحة الفساد أعقد من أن تتمكن أي جهة بالقيام بها لوحدها، ولكنها تستدعي تظافر جهود السلطات والمواطنين.
وقد عبر جلالة الملك محمد السادس نصره الله عن هذا المعنى بوضوح في الخطاب السامي الذي وجهه
إلى الأمة بمناسبة الذكرى 17 لعيد العرش المجيد بتاريخ 30 يوليو 2016، مبينا دور الدولة في مكافحة الفساد. وقال حفظه الله :
“يجب التأكيد أن محاربة الفساء لا ينبغي أن تكون موضوع مزايدات.
ولا أحد يستطيع ذلك بمفرده، سواء كان شخصا، أو حزباً، أو منظمة جمعوية. بل أكثر من ذلك، ليس من حق أي أحد تغيير الفساد أو المنكر بيده، خارج إطار القانون.
فمحاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع : الدولة بمؤسساتها، من خلال تفعيل الآليات القانونية لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها، والضرب بقوة على أيد والمفسدين”. انتهى النطق الملكي السامي.
وأكيد أن هذا التوجيه الملكي السامي يضع على عاتقنا، نحن القضاة، مسؤولية تاريخية في جعل العدالة الجنائية رافعة للثقة العامة، وضمانة لسيادة القانون والمساءلة.
ولذلك، فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يضع من بين أولوياته الاستراتيجية تعزيز الكفاءة المتخصصة لقضاة الجرائم المالية، عبر التكوين المستمر، وتوحيد الرؤى القضائية، وتطوير منهجيات التحليل المالي والقانوني، واستثمار التكنولوجيا الحديثة في التتبع والتحقيق. وقد تم سنة 2023، بمقتضى القرار التنظيمي رقم 16/23، إحداث بنية إدارية متخصصة داخل قطب القضاء الجنائي تُعنى بتتبع أداء أقسام الجرائم المالية وفق مؤشرات دقيقة للنجاعة والفعالية، بما يتيح قياس مردودية العمل القضائي وتحسينه باستمرار.
وفي السياق ذاته، حرص المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بشراكة مع رئاسة النيابة العامة والمجلس الأعلى للحسابات، على توقيع مذكرة تفاهم ثلاثية بتاريخ 30 يونيو 2022، هدفها تعزيز التعاون المؤسساتي في مجال مكافحة الفساد في التدبير العمومي، وتأهيل الموارد البشرية، وتطوير آليات تبادل المعلومات والتحليل المالي، وهو نموذج رائد في التنسيق بين المؤسسات القضائية والرقابية بالمغرب
حضرات السيدات والسادة؛
إن المعطيات الواقعية تؤكد حجم الجهود المبذولة في هذا المجال؛ فخلال السنة القضائية المنصرمة، بلغ عدد القضايا المسجلة أمام أقسام الجرائم المالية ما مجموعه 436 قضية، في حين بلغ عدد المقررات القضائية الصادرة إلى غاية منتصف سنة 2025 249 حكماً، بنسبة إنجاز تجاوزت 71% داخل الآجال الاسترشادية، وهو رقم يعكس بوضوح دينامية هذه الأقسام وجودة أدائها، رغم تعقيد الملفات وتشابكها.
كما أسفرت المتابعات القضائية الصادرة في مجال الفساد المالي عن صدور أحكام سيفضي تنفيذها إلى استرجاع مبالغ هامة لفائدة الخزينة العامة، حتى يستفيد منها المواطنون وفي مقدمتهم دافعوا الضرائب.
أيها الحضور الكريم؛
إن المجلس الأعلى للسلطة القضائية إذ يثمّن الجهود الجبارة التي يَبذلها المجلس الأعلى للحسابات في تدقيق الحسابات العمومية وإحالة التقارير ذات الصلة، ويونوه بجهود النيابة العامة في تتبع الدعوى العمومية في قضايا الفساد، فإنه يؤكد من جديد أن القضاء المالي هو صمام الأمان في منظومة تخليق الحياة العامة، وأن ضمان كفاءته وفعاليته يشكلان مظهراً لنجاح الإصلاح القضائي الذي أراده جلالة الملك نصره الله، إصلاحاً متواصلاً ومتدرجا، يعيد الاعتبار للعدالة كقيمة وكمؤسسة.
ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أشيد بقضاة وموظفي أقسام الجرائم المالية في محاكم المملكة، الذين يجسدون في أدائهم اليومي روح المسؤولية والاستقلال، والذين أثبتوا، من خلال أحكام رصينة واجتهادات متقدمة، أن المغرب يتوفر على قضاء قادر على التصدي لكل أشكال الانحراف المالي، في احترام تام للضمانات الدستورية للمحاكمة العادلة.
حضرات السيدات والسادة؛
• إننا ننطلق اليوم في سلسلة من اللقاءات التكوينية التي ستغطي مختلف محاور الاشتغال القضائي في مجال الفساد المالي: من التتبع والتحقيق، إلى الإثبات والتقارير المحاسبية، إلى التعاون القضائي الدولي واسترداد الأموال. وهي لقاءات نريدها فضاء للتفكير الجماعي، ولتبادل الخبرات بين القضاة والخبراء الوطنيين والدوليين، بهدف بلورة نموذج قضائي مغربي متميز في مكافحة الفساد، قائم على الدقة القانونية، والصرامة الأخلاقية، والنجاعة المؤسساتية.
وفقنا الله جميعا لما فيه خير وطننا، وخدمة العدالة، وترسيخ دولة الحق والقانون في ظل القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، أيده الله ونصره.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.