أخر أخبار

الحدود الحقة… فلسفة الدولة المغربية بين الذاكرة التاريخية وحكمة التوقيت

21 نوفمبر 2025
A+
A-

صوت الأمة: محسن عرفات

من يتتبع مسار المغرب منذ استعادة استقلاله سنة 1956 يلاحظ خطا استراتيجيا ثابتا لا يكاد يخطئ الاتجاه: بناء الدولة الحديثة بالتوازي مع استكمال وحدتها الترابية. لم يكن هذا المسار رد فعل ظرفي، ولا مبادرة سياسية مرتبطة بشخص او حكومة، بل كان تعبيرا عن وعي تاريخي اعمق ظل ملازما للدولة المغربية منذ نشأتها؛ وعي يقوم على ان الارض ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي مكون اساسي للسيادة والهوية والاستقرار.

هذا الوعي هو الذي يفسر استرجاع المغرب لمدينة طنجة الدولية سنة 1956، ثم طرفاية سنة 1958، وبعدها افني سنة 1969، ثم الساقية الحمراء عقب اتفاقية مدريد سنة 1975، فواد الذهب في 1979، وصولا الى تامين معبر الكركرات بشكل نهائي سنة 2020. وهو الوعي نفسه الذي جعل قرار مجلس الامن لسنة 2025 يرسخ، سياسيا وقانونيا، الرؤية المغربية بخصوص الصحراء.

لكن خلف هذه المحطات الظاهرة، توجد فلسفة دستورية هادئة قلما تقرأ بعمق، وهي فلسفة تتجلى في عبارة محددة وردت في الدستور المغربي: “الحدود الحقة”.

هذه العبارة ليست هامشا لغويا، ولا مجازا سياسيا. انها مفتاح لفهم رؤية المغرب لحدوده ولتاريخه، ولما ينبغي ان يكون عليه التعامل مع الارث الاستعماري الذي رسم حدودا لم تكن تعكس الحقائق التاريخية ولا التوازنات الاجتماعية للمنطقة.

الحدود بين ما هو قائم وما هو “حق”

يميز المغرب بين نوعين من الحدود:

1. حدود الامر الواقع: وهي الحدود التي ورثتها الدولة بعد الاستعمار، ويحترمها المغرب في اطار القانون الدولي والعلاقات الدبلوماسية.

2. الحدود الحقة: وهي حدود تستند الى التاريخ والشرعية، وتعبر عن الذاكرة الترابية العميقة التي تحتفظ بها الدولة، سواء كانت الاوضاع الجيوسياسية تسمح باعادة فتحها ام لا.

بهذا المعنى، تصبح عبارة “الحدود الحقة” اطارا مرجعيا يحتضن كل الاراضي التي يعتبرها المغرب جزءا من هويته التاريخية، بما فيها الصحراء الشرقية وما يشمله ذلك من مناطق اقتطعتها فرنسا وضمتهــا للجزائر خلال الفترة الاستعمارية، مثل تندوف وبشار.

لكن المغرب — بعكس ما قد يظنه البعض — لا يعالج هذه الملفات باسلوب مباشر او صدامي. بل يعتمد ما يمكن تسميته بمنهجية الزمن الطويل: الاحتفاظ بالمبدأ دون تحويله الى نزاع مفتوح، واحترام الواقع دون التنازل عن الذاكرة.

حكمة التوقيت… واستراتيجية النفس الطويل

ما يميز السياسة المغربية في هذا المجال ليس فقط وضوحها التاريخي، بل ايضا انضباطها الزمني. فالمغرب لا يطالب اليوم بالصحراء الشرقية، ولا يضع الملف على طاولة التفاوض، ليس لانه تخلى عنه، ولكن لانه يدرك ان لكل معركة توقيتها، ولكل ملف لحظته المناسبة.

والشيء نفسه ينطبق على سبتة ومليلية:

المدينتان مغربيتان تاريخيا وثقافيا، والمغرب يعلن ذلك في مناسبات مختلفة، لكنه لا يجعل استرجاعهما موضوعا للصراع الحالي، بل يحتفظ بهما ضمن افق استراتيجي يتحرك وفق شروط دولية واقليمية محددة.

بهذا الاسلوب، يدير المغرب ملفاته الترابية على قاعدة بسيطة:

احترام الواقع دون المصادقة عليه، وتثبيت المبدأ دون المخاطرة بالاستقرار.

وهو ما يتجلى بوضوح في تريث المغرب، وفي نفس الوقت، في استمرار وجود كل هذه المناطق ضمن مفهوم “الحدود الحقة” الذي يذكر بان الاستعمار غير الخرائط لكنه لم يغير التاريخ.

لماذا تخشى الجزائر هذه العبارة بالتحديد؟

الجزائر اكثر من غيرها تدرك ان عبارة “الحدود الحقة” ليست مجرد تعبير نظري.

فهي تعني، بوضوح هادئ، ان المغرب لم ينس ملف الصحراء الشرقية، وانه لا يرى في الحدود التي رسمتها فرنسا حدودا نهائية، بل حدودا فرضتها ظروف استعمارية.

كما تدرك الجزائر ان المغرب، بعكس المنطق الانفعالي، لا يفتح الملفات حين يكون الظرف غير مناسب. وهذا ما يجعله — في نظر خصومه — اكثر قوة: لانه يترك الزمن يعمل لصالحه، ويعتمد على شرعية تاريخية وقانونية تراكم قوتها بصمت.

بين التهدئة والمبدأ: معادلة مغربية دقيقة

نجح المغرب في تحويل عبارة دستورية قصيرة الى فلسفة سياسية طويلة المدى.

فهو لا يلوح بفتح الحدود، ولا يستعمل الملفات الترابية للضغط، لكنه في الوقت نفسه لا يتخلى عن اي حق تاريخي.

ويمكن تلخيص هذه المقاربة في ثلاث نقاط:

1. لا تنازل عن المبدأ: الصحراء كانت وستظل مغربية تاريخيا.

2. لا اندفاع غير محسوب: فتح الملفات الكبرى يحتاج الى توازنات اقليمية ودولية.

3. الزمان جزء من الاستراتيجية: ما ليس ممكنا اليوم قد يصبح ممكنا غدا.

ولذلك، فان القول ان المغرب “سيطالب يوما بصحرائه الشرقية وبمدينتي سبتة ومليلية عندما يحين الوقت المناسب” ليس تعبيرا عن نزعة توسعية، بل عن رؤية تاريخية متأنية تحترم القانون الدولي، وتحتفظ بحقها في نفس الوقت.

عبارة “الحدود الحقة” ليست جملة عابرة في وثيقة دستورية.

انها خلاصة فلسفة دولة عريقة تدرك ان الحدود ليست فقط خطوطا على الخرائط، بل هي تراكم للاحداث والشرعيات والتوازنات التاريخية.

وبين احترام الواقع والحفاظ على الذاكرة، وبين الاستقرار والحق، ينسج المغرب سياسته الترابية بهدوء، بثقة، وبوعي بان التاريخ لا يستعاد بالصراخ، بل بالصبر، والقانون، وحسن قراءة الزمن.

تعليقات الزوار ( 0 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: