صوت الأمة: أبو ميسم
في الأيام القليلة الماضية، تداولت صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي مذكرة رسمية صادرة عن وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، تتعلق بتكوين أساتذة التربية البدنية في تدريس رياضتي “الهيب هوب” و”البركنيك”. وعلى غير عادة النقاشات التربوية، تحولت المذكرة إلى مادة للسخرية، وانهالت التعليقات الساخرة التي تراوحت بين التهكم البسيط والتشكيك في جدية النظام التعليمي، متناسين – أو بالأحرى، جاهلين – أن واحدة على الأقل من هاتين الرياضتين معترف بها من قبل اليونسكو، وقد أصبحت مدرجة ضمن الألعاب الأولمبية الرسمية، في دورة باريس 2024.
إن هذا التهكم ليس مجرد ردة فعل مضحكة من جمهور غير مطلع، بل هو مرآة تعكس عمق الهوة بين الأجيال، بين من ترعرع على ثقافة الرياضات الكلاسيكية كالعدو وكرة القدم، ومن ينتمي لعالم جديد أصبحت فيه الهيب هوب ثقافة وممارسة رياضية وفنية وهوية حضرية عالمية.
من يسخر اليوم من “الهيب هوب” قد لا يعلم أنها تجاوزت حدود الرقص إلى كونها وسيلة للتعبير عن الذات، وسلاحا لمقاومة التهميش، ومنبرا للدمج الاجتماعي، وأنها جزء من حركات شبابية عالمية وجدت طريقها إلى المؤسسات الرسمية، ومنها المدارس، من أجل احتضان طاقات الشباب بدل تركها فريسة للشارع أو التطرف أو الضياع.
أمّا “البركنيك”، وإن كان اسمه لا يزال غريبا على آذان الكثيرين، فهو جزء من رياضات التوازن واللياقة، ويعكس روح الرياضة الحديثة التي تراعي جوانب الترفيه، والتحكم الجسدي، وتنمية المهارات الحركية الدقيقة. وهو، في عمقه، امتداد لتطور المفهوم الرياضي داخل المدرسة الحديثة، حيث لم تعد الرياضة مجرد وسيلة لتفريغ الطاقة، بل مجالا لبناء شخصية متكاملة.
ولعل ما يغيب عن أذهان كثيرين ممن سارعوا إلى التهكم، هو أن دولا جد متقدمة مثل ألمانيا، فرنسا، وكندا، أدرجت منذ سنوات هذه الرياضات في برامجها المدرسية، إيمانًا منها بقدرتها على جذب اهتمام الناشئة، وتعزيز الذكاء الحركي، وروح الإبداع والانضباط في صفوف التلاميذ. لقد سبقتنا هذه الدول لا فقط في التكوين والبنية، بل أيضا في الجرأة على فهم التحولات الثقافية والرياضية ودمجها في السياسة التعليمية.
التهكم في حد ذاته ليس المشكلة؛ فالنقد والسخرية جزء من حرية التعبير. لكن المؤسف هو أن هذا التهكم مبني على جهل بالمستجدات العالمية، وعلى تمثل قروسطي لدور المدرسة ومفهوم الرياضة المدرسية. ففي زمن تتسابق فيه الأمم لدمج الثقافة الرقمية، والفن الحضري، والرياضة الحديثة داخل المدرسة، نصرّ نحن على الدفاع عن نموذج قديم للناشئة، تحت مسمى “الوقار” أو “الجدية”، بينما نضحك من كل جديد لا نفهمه.
إن الجيل الجديد لا يشبهنا. ومن العبث أن نطالبه بأن يكون نسختنا. الأجدى أن نتعلم لغته، أن نفهم رموزه، وأن نرافقه لا أن نحتقره. حينها فقط، لن نضحك من “الهيب هوب”، بل سنفخر بأننا نملك وزارة تجرأت على كسر القوالب، وعلى إعطاء الرياضة والفن حضورهما الحقيقيين في المدرسة.