صوت الأمة:
مقال: محمد الغوفير
عرف المغرب هجرات متعددة لليهود كانت بدايتها قبل عام 579 ق.م تاريخ هجوم ملوك بابل على اورشليم؛ و في عام 587 ق.م استولى الملك البابلي “نبوخد نصر” على جودا فقام بتشتيت سكان مملكة اليهود مما دفع جزء منهم إلى الهجرة من فلسطين إلى المغرب الأقصى إما عن طريق السبي أو التجارة، و عرفت هذه الهجرة باسم الهجرة الأولى.
و جاءت الهجرة الثانية لليهود مع الفينيقيين الذين وصلوا إلى إسبانيا و المغرب فوجدوا فيه المأوى و القبول و الاستيطان لما بين الجنسين من صلات القرابة و اللغة و التقاليد و العادات، و هذا ما سمح لليهود في التوغل داخل بلاد البربر بين قبائل الأطلس و قبائل جنوب المغرب الأقصى. و قد تمرس اليهود على أعمال التجارة بسبب احتكاكهم بالفينيقيين و أصبحت لهم علاقات في جميع أنحاء العالم معتمدين على الجماعات اليهودية التي انتشرت في مختلف القارات، كما استغل اليهود التواجد الفينيقي بالمغرب فوطدوا علاقاتهم الاجتماعية و الدينية داخل القبائل البربرية و يتضح ذلك من خلال اعتناق العديد منهم للديانة اليهودية، و يؤكد على ذلك ابن خلدون في كتاب العبر و ديوان المبدأ و الخبر في تاريخ البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر م 6 ج 11 ص 214 بقوله ” إن الدين اليهودي أخذه البربر عن بني إسرائيل”
و عرف المغرب الأقصى خلال القرن الأول الميلادي هجرة ثالثة لليهود بسبب الاضطهاد الروماني لهم بأرض فلسطين، و خلالها كان انتشارهم بالمغرب محدودا بين القبائل البربرية، ثم ازدادت وثيرته في إتجاه الصحراء الليبية و منها إلى بلاد المغرب عندما قام يهود المدن الليبية بثورة ضد الرومان تضامنا مع بني جلدتهم فكانت نتيجتها تخريب الملك جابوس لأورشليم عام 37 م و 41 م. و في 70 م قامت ثورة أخرى ضد الرومان انتهت بسقوط أورشليم في يدهم و تم تحطيم الهيكل وقتل من اليهود ألفان و هاجر آخرون إلى جنوب الصحراء الليبية هربا من الاضطهاد و التنكيل.
و لم تمر فترة طويلة حتى قامت ثورة عظيمة ضد الرومان بين عام 98 م و 117 م في أراضي الشام و بلاد كثيرة راح ضحيتها مائتان و عشرون ألف نسمة من اليهود، و استطاع الرومان تحقيق الانتصار فيها عام 115 م و حولوا “برقة” إلى خراب، و استمرت الثورة إلى حدود عام 117 م، و فر العديد من اليهود إلى مدن الشمال الإفريقي و إلى جنوب الصحراء الليبية و اختلطوا بالقبائل المناهضة للحكومة الرومانية، و قد وصلوا إلى حوض نهر النيجر الأوسط و إلى السنغال. و يبدو أن ما لقيه يهود المغرب من السلطات الرومانية قد دفع بهم إلى العزلة و التقارب فيما بينهم و جعلهم يتخلون على الهيكل و يكتفون بالاهتمام بشأنهم الديني و بالتجارة و الفلاحة كما استثمروا في شراء العقارات و زراعة الأراضي.
و قد كان لقرار قسطنطين (324م-337 م) بمنح اليهود حق المواطنة من الدرجة الثانية أثر كبير على هجرتهم إلى شمال إفريقية بحيث تضاءلت وثيرته، فاستوطن اليهود المدن الكبرى و مارسوا فيها التجارة و الصناعة، كما انحدر بعضهم إلى جنوب المغرب فسكنوا المدن التي كانت تعرف حركة تجارية مهمة كفاس و سجلماسة.
و مع بداية القرن الرابع الميلادي سوف تبدأ موجة جديدة من القهر و التمييز بالنسبة لليهود في الديار المسيحية، و خلال هذه المحنة و في القرن السابع الميلادي لم يجد اليهود مسلكا للهروب سوى ديار الإسلام حيث مارسوا عبادتهم بحرية و أمان و ازداد نشاطهم التجاري و نمت حركتهم الاقتصادية و الفكرية و منهم من احتل مناصب عليا في الدولة الإسلامية و بالأخص في الأندلس، فقد كان لهم الحق في ترميم معابدهم و إعادة تشيدها و حماية حقوقهم و ممتلكاتهم مقابل ادائهم الخراج و الجزية.
استمر هذا الأمر إلى حدود انهيار دولة الخلافة الأموية و ظهور ملوك الطوائف بالأندلس حيث حدى بكل أمير من أمرائها ببناء دويلة منفصلة و تأسيس أسرة حاكمة من أهله و دويه في العقدين 1020م-1030م، و بهذا تم تقسيم الأندلس إلى 22 دويلة. و مع تزايد أطماع ملوك الطوائف نشبت بينهم العديد من الحروب فاستعان البعض منهم بالملك ألفونسو السادس مقابل دفع الجزية، فكان من نتائج ذلك تأزم الوضع بالأندلس و تعنيف و اضطهاد البعض من يهودها.
و في خضم الحروب بين ملوك الطوائف سوف يبزغ فجر دولة المرابطين بالمغرب بقيادة يوسف بن تاشفين الذي جهز الآلاف من جنوده و سفنه و عبر البحر في اتجاه الأندلس في 30 يونيو 1086م، و من خلال العديد من جوازاته و انتصاراته على الإفرنج سوف يقوم بتوحيد الأندلس تحت راية واحدة و بذلك سيعود الاستقرار و ينعم اليهود من جديد بحقوقهم على اعتبارهم أهل الذمة، بالمقابل يتعرض اليهود في الديار المسيحية إلى المدبحة الكبرى أثناء الحرب الصليبية ابتداء من 1096م و ذلك خلال هجرة المسيحيين نحو ما يزعمون أنه القبر المقدس “قبر السيد المسيح”، و قد تطلب تحريره ذبح اليهود (أعداء المسيح) المتهمون بكل بالرذيلة و الهرطقة و الشعودة و بتسميم منابع المياه و بنشر الطاعون و قتل الأطفال المسيحيين و استعمال دمائهم في طقوس غير إنسانية و تدنيس الأماكن المقدسة…
ففي ظل حكم المرابطين سوف يمارس اليهود التجارة و الفلاحة و الملاحة و السياسة، و قد حققوا بذلك التراء و الغنى و وصلوا إلى أعلى المناصب و الرتب في سلم إدارة المرابطين باستثناء بعض الأحداث المعزولة التي تعرضوا فيها إلى الاضطهاد و الإهانة بسبب تصرفات البعض منهم من قبيل العصيان أو الامتناع عن تأدية الجزية و الخراج أو التطرف في الدين أو بسبب أعمال الخيانة و التخريب مثلما حصل في غرناطة عام 1066م حيث قتل ثلاثة آلاف من اليهود، و قد عاش اليهود في استقرار و اطمئنان تحت حكم المرابطين و كذلك أثناء حكم دولة الموحدين و خاصة في عهد المأمون الموحدي 1229م-1232م و تخليه عن أفكار محمد بن تومرت و فكرة المهدي المنتظر.
غير أن حقد المسيحية على اليهود في أوربا لم يهدأ على الإطلاق، بل كانت أغلبية السلطات المحلية تشجع العامة على مطاردتهم، بل و طردهم كما حدث سنة 1290م عندما طردوا من ابريطانيا و سنة 1394م من فرنسا، و سنة 1492م من اسبانيا عند سقوط غرناطة و طرد المسلمين منها.
و عندما ضفر أبو يوسف يعقوب المريني بمقاليد الحكم في المغرب رفع ظلم و اعتداء عماله على الرعايا و ألغى المكوس كما محى الرسوم التي كانت تدفع على الرتب و المناصب. كما أنه وفي عهد السلطان أبي يعقوب يوسف بن يعقوب الذي تولى الحكم عام 1286م، حقق اليهود نجاحا كبيرا في السياسة و تسلقوا أعلى المناصب في هرم الدولة المرينية فكان منهم الحجاب و جباة الضرائب و السفراء و المترجمون و الجواسيس….
و في عهد السلطان أبي سعيد عثمان (1310م-1331م) وصل التسامح مع اليهود دروته بحيث أمر هذا السلطان العامة بالكف عن اضطهاد اليهود كما أمر ببناء حي خاص بهم في مدينة فاس الجديدة عام 1325م. و كذلك أسقط أبو الحسن علي بن عثمان المريني (1331م-1348م ) الجزية عن اليهود بسبب حسن سلوكهم.
و بانهيار الدولة المرينية و بزوغ دولة الوطاسيين سوف يفقد المسلمون الأندلس و ستعرف أوربا اندلاع العنف و التنكيل بالمسلمين و اليهود بسبب حركة الاسترداد المسيحي و ظهور ما يسمى بمحاكم التفتيش في 9 دجنبر 1484م تحت غطاء محاربة البدع و خدمة الله، و قد أنشئت محاكم التفتيش في الأندلس حوالي عام 1478م من أجل تمكين الملك فرديناند و الملكة إزبيلا من فرض سيطرتهم السياسية على إسبانيا و ذلك باستخدام الكنيسة و التي استهدفت المسلمين و اليهود و الفئات و الطوائف المسيحية و اجبرتهم على اعتناق الكاثوليكية، و بمرسوم ملكي تم استصداره عام 1609م تم طرد المرسكيون و اليهود من إسبانيا.
و في تلك الفترة من تاريخ المغرب لم يقوى الوطاسيون على فعل شيء سوى فتح المغرب الأقصى على مصراعيه لاستقبال افواج من المسلمين و اليهود الفارين من أوربا المسيحية بسبب ضعفهم بحيث أنهم لم يستطيعوا أن ينشئوا نظاما يقر سلطتهم على مجموع تراب المغرب، و قد استغل البرتغال الوضع المتردي للمرينيين و الوطاسيين و استولوا على عدة مدن مغربية مثل سبتة عام 1415م و أنفى عام 1469م و أصيلة عام 1471م و غيرهم من المدن الساحلية.
و يرى المؤرخ مارمول كربخال في كتابه “وصف إفريقيا” أن عدد اليهود في فاس بلغ عشرة آلاف يهودي في عهد السعديين، و يبدو أن هذا العدد مبالغ فيه، و قد عاش خلال هذه الفترة أكثر يهود المغرب الأقصى في الأقاليم الجنوبية و في القرى و على قمم الجبال الأطلسية و الريفية، بينما استقرت الأقلية منهم في المدن الكبرى. و قد مارس اليهود جميع طقوسهم الدينية و تقاليدهم و عاداتهم الموروثة عن أجدادهم و احتفلوا بأعيادهم دون قيد أو مضايقة من طرف السلطات و تمتعوا بنفس الحقوق و الواجبات تحت حكم السلاطين المغاربة.
و قد ظل اليهود في عهد العلويين يعيشون كباقي إخوانهم المغاربة حيث أسسوا الطوائف اليهودية و المدارس و شاركوا في الحياة الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و أسسوا الأحزاب و الجمعيات و تمتعوا بجميع حقوقهم الفردية و الجماعية…و عاشوا وسط المسلمين في سلم و سلام و تقاسموا الأعياد و الأعراس و المناسبات الدينية.
و قد شهد القرنان السادس و السابع عشر في أوربا مطاردات كبرى على غرار ما ذكر، و قد وجد اليهود ملجأ في انجلتيرا في عهد (كرومول) و بالأخص في الجمهورية الليبرالية للأراضي المنخفضة التي كانت تحكمها عائلة (سبينوزا) من أصل برتغالي.
كان عصر النهضة الأوربية مرحلة متسمة بالهدوء نسبيا و لكن بعض ذوي الأفكار الحرة ك (فولتير) لا يخفون حقدهم الشديد ضد اليهود. و يرجع الفضل في تحرر اليهود إلى الراهب (غريغوار) الذي نشر دراسة حول اليهود سنة 1787م حيث صوت عليها في 27 فاتح سبتمبر 1791م لتصبح بمتابة قانون محرر لليهود، و أثناء حروب الثورة الفرنسية قام جنود الثورة بتحطيم جدران و أبواب التجمعات اليهودية ليخرجوا من عزلتهم. و هكذا بدأت مرحلة جديدة من تاريخ اليهود في أوربا الرأسمالية، و بدأ اليهود نوعا آخر من الدفاع من خلال الحفاظ على خصوصيتهم وسط عالم تضمحل فيه امتيازات الدم و العرق، و هكذا احتل اليهود موقعا أساسيا في الثورة الصناعية التي أخذت تكتسح القوميات الأوربية.
يعتبر القرن التاسع عشر قرن القوميات و التصنيع، و بذلك أصبحت القوميات الإطار الوحيد الذي يجتمع و ينتسب إليه الأفراد، و في خضم هذا الوضع الجديد تضامن اليهود فيما بينهم و شكلوا قوة تتجاوز الحدود حيث كونوا علاقات عالمية فيما بينهم، فنجد مثلا عائلة (روتشيلد) اليهودية الثرية في باريس و في لندن و في فيينا، و كان رد الفعل اليهودي هو الدعوة إلى الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر على لسان (تيودور هرتزل).
و رغم كل القوانين التي صدرت لمصلحة اليهود و عملت على تحريرهم بعد الثورة الفرنسية فقد تعرضوا في أوربا خلال القرن التاسع عشر إلى مضايقات و صلت إلى مجازر كبرى منها مجزرة 13 مارس 1881م بمدينة «كييف». و في 1871م حدثت مذابح في الجزائر في منطقة القبائل و في فرنسا ضد اليهود بسبب اصدار فرنسا مرسوما في 24 أكتوبر 1980 يمنح المواطنيين اليهود الموجودين في الجزائر حق المواطنة الفرنسية.
و قد شهدت أوربا في بداية القرن العشرين حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عدة أشكال لمناهضة اليهود و الحقد عليهم و كان آخرها النازية التي تزعمها هتلر، و في الوقت الحالي توجد في عدة دول أوربية أحزاب يمينية تنادي بالعداء ضد اليهود.
و قد كان من نتائج الحرب العالمية الثانية إنشاء الكيان الصهيوني سنة 1948م، و بروز نوع من العلاقات بين اليهودية و المسيحية كتكفير عن ذنب الصمت تجاه ما تعرض له اليهود أثناء هذه الحرب. و قد جاء في كلمة ألقاها البابا يوحنا بولس الثاني أثناء زيارته للمعبد اليهودي في روما في 13 أبريل 1986م ما يلي: (أنتم إخواننا المفضلون و بمعنى آخر إخواننا أكبر سنّا) و هذا يوضح بداية الإنفراج بين الكنيسة و اليهود.
و رغم معانات اليهود التي دامت عقودا من الزمن تبقى الديار الإسلامية و منها المغرب الأقصى هي الملاذ و الحاضن الوحيد للفارين من اضطهاد الديار المسيحية، و هي المكان الذي مكّن اليهود من الخروج من بوتقة الفقر و التهميش إلى عالم النور و المعرفة و الفكر و النظريات الاقتصادية و السياسية و الإجتماعية قبل أن يبزغ فجر الثورة الفرنسية و الصناعية بإنجلتيرا.
لذلك لا يمكن الاستغراب من دفاع اليهود على قضايا المغرب و وضع علامة الاستفهام على العلاقة الوطيدة التي تربطهم بأرضهم و وطنهم المغرب مادام أن الأمر يتعلق بامتداد تاريخي تجاوز آلاف السنين تشبع فيه اليهود بكل التقاليد و العادات المغربية و تقاسموا فيه مع إخوانهم المسلمين كل الأفراح و المسرات و الأحزان و مراحل التقلبات و الأزمات و الانفراج السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي.